طفولة بقلم يسرا طعمة






طفولة
يسرا طعمة 




تطلّ من نفق ماضٍ ليس في نهايته ضوء، أو قبسٍ كأنها احتلال للزمان. أراها في الأقاصي البعيدة تملؤني العبرات لتلك الآلهة المحنّطة في الذاكرة. معابد الرمل المزخرفة على حوّاف النسيان مدن ملائكة ترفل بالنعم لم يطمثهنّ شجن ولم تزاور عن مخيلتي خمسون مضت. أحداث تناجي دمىً وملامح قدر مازال صوت أمّي يرفرف من مشكاة تشع عطاءً ووقاراً كأنه انبعاث شفق. وشاح يلفّ أنفاسي يدثرني برقية أو تميمة؛ أي صغيرتي ارتديني واقصدي في مشيك إنّ الدرب إلى المدرسة زلقةـ والثلج يلبس الطرقات المملؤة بنشيج ميزاب الخريف. 
كنت أعبث بالفرح والوحل والريح، وأداعب الصباحات، أزفّها أناشيدا في الأراجيح أغرسها في دفاتر المدى وعيناي تراقصان السماء الطافية كقبّة لازوردية. فوق الاشجار المصطفّة كثلة نسّاك أغصانها تسحّ بالدعاء أن تُسقى من غدق في عالمي ذاك المفتوح مثل كتاب مقدس يرتّل مجد الطفولة. كان يطرّز طريقي الطويل صوت الدوري وأجمة التوت البريّ وخرير سواقي الثلج الذائب أطارده ندفة ندفة كزغب القطا وأسابق عزيف مداخن تصطك بيوتها بين فكي العاصفة صخب آهاتها يلتهمه الضباب أسمع أزيز انكسارها من وطأة الوجع وتحت وقع خطواتي اللاهثة يتكوَّم الثلج عرائساً يتحطم رداؤه البلوري فتقفز حبات زيتون. وخشكار الجوز والتين التي سقطت آخر الموسم كانت معلقة على وهن، متحجرة تحت الجليد فتضحك جيوبي الصغيرة حين يملؤها الفرح بوجبة مقدسة. أعود تحت معطفي حكايا فرسانها من كوكب آخر كأنهم خشبٌ مسندة ذوي أجنحة. بائسة لايشعرون بتعب أو وسن أغفو من ثقل أحداثها وأنتظر غداً يدغدغُ جفون الليل نازف من شقوق غيمة لأمرح في رحابه كفراشة يحرقها دنو الدفء من تويجات وجنات بالسعادة ترعف وقوافل أحلام غادرت فسحة العمر بطرفة والقبيلة ماتزال على الاطلال عاكفة.



الهامش 
خشكار. اسم من اصل فارسي : يعني. الدقيق الكامل ويطلقه الفلاحون على الثمار التي تبقى على الشجر و تسقط في الشتاء

اللوحة - طفولة- للدكتور انور غني 2018






 يسرا طعمة 
سوريا