دونْ كيخوتِه

  فريد غانم


كلّما تأخّرَ رغيفُ الخبزِ على مساءِ ذلك الفارسِ الحزينِ، فإنّهُ يرى العمالقةَ المسكونينَ بالهشاشةِ وهم يجرشونَ الهواءَ بأنيابِهم المطليّةَ بزيتِ الخديعةِ، ويُطعمونَ الفقراءَ أرغفةَ البؤسِ وفاكهةَ الأماني القاتِلة. فيخرجُ من كتُبِهِ المزروعةِ بغُبار الأيَّامِ و صدَأِ القُوّةِ، يعتَلي صهوةَ المُدُنِ الهزيلةِ ويجري بترسِهِ المنسوجِ من الخيشِ بحثًاً عن غمامةٍ ناصعةِ البياضِ.  كلّ ذلك بدون أنْ ينسى تسجيلَ بِطاقةٍ سرّيّةٍ لأميرتِهِ المُستحيلة.
سيكتُبُ الرُّواةِ في المُستقبلِ المُنثالِ علينا فُكاهةً تُمزِّقُ خواصرَنا. وسيرسمُ الرّسّامونَ الماهرونَ للمُراءاةِ لوحةً من ألف لونٍ ولونٍ. وسوفَ تصيرُ الخيانةُ مهنةً مُشرِّفةً مختومةً على شهاداتٍ مزركشةٍ فوقَ جدران البَريق. وسوف يكونُ جفافُ ماءِ الوجوهِ زينةً للتَّقاسيمِ الميِّتة، والوَسَطيّةُ تفوُّقًا والغباءُ سُلَّمًا للصّعودِ إلى قِمَمِ الحَضيض. وسوفَ يكتبُ المؤرّخون والعلماءُ والفلاسفةُ والمؤلّفونَ سيناريوهاتِ المسرحيّةِ بحروفٍ مقلوبةٍ وظلالٍ فاقعةٍ.
 أمّا ذلك الفارسُ الحزينُ فيظلُّ يبحثُ عن غيمةٍ عذراءَ ونافذةٍ تُطِلُّ على تهليلةِ جدْوَلٍ بعيدٍ، وينتظرُ حبيبتَهُ العَصِيَّةَ صاعدةً من أبخرةِ الأناشيد. وها هو ما يزالُ يعتلي صهوةَ الهيكلِ العظميِّ في الصّباح ليُطلقَ حربتَهُ المصقولةَ من الخشبِ المُتسوِّسِ والعرَقِ الأبديِّ على أعمدةِ الدّخانِ الماضيةِ في تَفسيخِ السَّماء والأرض. ثمَّ يربِطُ حصانَهُ بذيلِ حمارِه المربوطِ بفكرةٍ بائدةٍ ويأخذُ استراحةَ المُحاربِ في صفحةٍ ممحوَّةٍ، في عمقِ كتابٍ منسيٍّ، ما يزالُ مُعلّقًا على آخرِ خُصْلةِ ريحٍ نقِيّة.





* فريد غانم شاعر و كاتب فلسطيني من مواليد قرية المغار، قرب بحيرة طبريا (الجليل/فلسطين) للعام 1958. درس الأدب الإنجليزي وعلم النفس والقانون وحصل على شهادات من الجامعة العبرية في  القدس. يعمل محاميًا منذ 1991، وشغل منصب رئيس بلدية لخمس سنوات. يكتب الأدب، وخصوصًا قصيدة النّثر، وقد نشر في العامين الأخيرين ثلاثة كتب أدبية "لو أنّ..."، "ترنيمة للقديم" و "عند اشتعال الظّلّ).





الشخصية التعبيرية في قصيدة فريد غانم  ( دون كيخوته). بقلم د أنور غني الموسوي


 فريد غانم كاتب أدبيّ له أسلوبه الخاص في التوظيف الرمزي و الحفر العميق في الموروث الانساني، معتمدا على ثقافة و اطلاع واسع يمكّنه من استنطاق الموروث و تضمينه نصوصه ليس بالمحاكاة  او المساجلة و لا باعتماد الرمزية التأريخية  الخارجية  التي تكون بتوظيف الرمز الخارجي داخل النص، بل بالرمزية النصية الداخلية، حيث يخرج الرمز من تأريخيته الخارجية و يُصنع له تأريخ نصيّ جديد و دلالة نصيةّ و رمز نصي داخلي، هذا الأسلوب هو الرمزية النصيّة او الداخلية .
في سرديته التعبيرية ( دون كيخوتيه) التوظيف ظاهر لرواية ( دون كيخوتيه) الشهيرة و التي قد تعنون  أيضا بـ ( دون كيشوت). كما انّ الاعتماد على الأفكار و الملامح الرئيسية في الرواية ظاهر، و لا نريد هنا الاشارة الى التوظيف للرمز الخارجي و انما نريد الكلام عن الرمزية النصية الداخلية التي ابدع فيها فريد غانم لأنّ ( الرمزيّة النصّيّة ) هي احدى العناصر الأسلوبية في السرد التعبيري.
السرد التعبيري هو شكل شعري يعتمد السرد، لكنّ السرد فيها يتحرر كليّا من قصصيّته و يستعمل كأداة تعبيرية لتحميل النصّ طاقات تعبيرية و شعورية و عاطفية ،و تجلّي البعد الغنائي في السرد بالسرد الممانع للسرد و السرد المضاد للسرد، حيث السرد ليس بقصد الحكاية و القصّ و انما بقصد الايحاء و الرمز و الغنائية.
للرمزية النصية بعدان أسلوبيان الأول الرمزية التعبيرية أي الابتداع و الخلق الخاص و الفردي للرمز و الثاني التأريخ النصي بجعل تأريخ للمكوّن او العنصر اللغوي في النص مختلفا عن الخارج.
تتجلّى الرمزية التعبيرية في تجلّي الرؤية و النظرة الخاصة الاعتراضية و الفردية في مجموعة من المعاني التي وردت في النص ( الفارس ، العمالقة، الرغيف،  الترس ، الاميرة ، الكتابة و الكتاب ، الحربة و الحصان ) فانّا نلاحظ انّ كلّا من تلك المعاني قد وُظّف في السرد لأجل الايحاء و الرمز الى دلالات نصيّة برؤية معترضة و مغايرة للخارج كما هو واضح  مكتسبة بذلك رمزية تعبيرية قوامها الاعتراض و الفردية.
و اما التأريخ النصّي فانّا نجده واضحا في بعض المعاني الرئيسية او المركزية كـ ( الفارس، العمالقة، الكتبة، و عدة الفارس) و هناك مكونات ( او شخصيات شعرية تعبيرية ) ذات تأريخ نصّي أقصر مثل ( الرغيف و الأميرة ). انّ التطور الزمني و الرمزية لتلك المكونات و بما يقابل التطور الحدثي يمكننا من وصف تلك المكونات او العناصر النصيّة التي لها تأريخ نّصي تعبيري و ايحائي و رمزي تطوّري في النصّ بأنها  (شخصيات تعبيرية). و الشخصية التعبيرية هذه هي أحد مظاهر السرد التعبيري.

ملاحظات
(1)            جميع الحقوق بخصوص النص و المقال محفوظة لمجلة تجديد فلا يجوز نشر أي منهما باي شكل كان الا كاقتباس او في كتاب خاص بأدب المؤلف مع الاشارة الى المصدر.
(2)            كثير من التعابير و المصطلحات الواردة في المقال مبيّنة و مفصّلة في كتاب  ( التعبير الأدبي) لصحاب المقال د أنور غني الموسوي و المنشور في مدونته الخاصة على العنوان التالي :



 http://anwerganiblog.blogspot.com/p/blog-page_26.html